عبدالجليل زيد المرهون
وبالتقدم خطوة أخرى على طريق المعالجة السوسيولوجية لظاهرة الإرهاب، ثمة عنصر آخر في الاتجاه ذاته يفرض نفسه منهجياً على هذه المقاربة، إنه جغرافية الظاهرة، إنما في إطارها السياسي. إنها البيئة الجيوسياسية للظاهرة. * لقد كُتب الكثير عن الإرهاب ومُحفزاته على صعيد الفرد والمجتمع. بيد أن القراءة السوسيولوجية لهذه الظاهرة لا يزال يشوبها قدَرٌ ملحوظٌ من التشويش. وإذا كان الإرهاب ظاهرة سوسيولوجية مُسَيّسة، أو لنقل تنطوي على بُعدٍ سياسي بحكم الأمر الواقع، كما بِفعل صيرُورَتِها الذاتية، فإن المعالجة العلمية الناجزة لها تستتبع بالضرورة وضعها في سياق التحليل السوسيو - سياسي (Social-Political Analysis)، إنما بأدوات مُطوّرَة، أو لنقل مُطَوّعَة، بحيث تستجيب للقدر الكبير والمعقد من خصوصيات الظاهرة، كما خصوصيات بيئتها الجيوسياسية والجيوسوسيولوجية (Geo-Social Network)، وذلك على نحوٍ متوازن، بعيداً عن المقولات الجاهزة والإسقاطات التعسفية، التي تضر ولا تنفع.
ويمكن الوقوف على أربع مدارس، أو لنقل أربعة اتجاهات منهجية، في المقاربات السوسيولوجية الراهنة لظاهرة الإرهاب:الاتجاه الأول، هو ما يمكن وصفه على نحو مبدئي بالاتجاه التقليدي، وهو الذي يُحيل ظاهرة الإرهاب مركزياً إلى الجذور الأولى لتنشئة الفرد، وهي الأسرة والمدرسة والمحيط القريب، ممثلاً في القرية أو الحي الصغير. كما يُعِير هذا الاتجاه درجات متفاوتة من الاهتمام للمؤثرات الإعلامية، المرتبطة أساساً بالشبكات الاجتماعية للفرد والأسرة.وهذا الاتجاه هو السائد في المنطقة بوجه عام.
ويؤخذ على الاتجاه المذكور تركيزه على ماضي الفرد أكثر من حاضره، على الرغم من أن ظاهرة الإرهاب لا ترتبط في الغالب بفئات عمرية تعيش مرحلة التعليم المدرسي أو ما قبلها. كذلك، يؤخذ على بعض مريدي هذا الاتجاه تبنيهم لمنهج صدامي مع مجتمعاتهم، يتجلى في رفض كل ما هو قائم، ونعته بالتخلف وعدم الحداثة، الأمر الذي أعطى في الغالب نتائج عكسية، وولد نفوراً، وردود فعل لم تصب في الصالح العام.وعلى الرغم من ذلك، يحسب للعديد من مريدي هذا الاتجاه التصاقهم بعامة الناس، وتبنيهم لهمومهم اليومية، واقترابهم المباشر من أحاسيسهم.وكما يتضح الآن، فإن الاتجاه التقليدي قد تأثر كثيراً في مدركاته التحليلية بمناهج انتروبولوجيا المجتمع، وذلك على الرغم من أننا لم نشهد في الكتابات العربية حتى اليوم مقاربات انتروبولوجية خالصة لظاهرة الإرهاب.
الاتجاه الثاني، هو الاتجاه السيكو - سوسيولوجي، الذي يركز في معالجته لظاهرة الإرهاب على تحليل البيئة النفسية للفرد، ضمن محيط متداخل الدوائر، يقع مركزه في أكثر المؤثرات قوة وراهنية.وهذا المركز قد يكون بعيداً عن الأسرة، وعن الحي أو المدينة، وربما عن الدولة التي يعيش فيها الفرد.وبالطبع، فإن هذا الاتجاه ليس اتجاهاً سيكولوجياً خالصاً، بل هو اتجاه سيكولوجي اجتماعي، وتحديداً، فهو يجد موقعه في علم النفس الاجتماعي، وهذا التخصص يبدو اليوم على درجة متزايدة من الضرورة والأهمية، ومن الجدير بمكان تشجيع الشباب على الانخراط فيه.
الاتجاه الثالث في المقاربة السوسيولوجية لظاهرة الإرهاب، هو الاتجاه السلوكي.وفحوى هذا الاتجاه هو التأكيد على أن قناعات الفرد يمكن صوغها أو التأثير عليها عبر إشراكه في أنشطة ومهام محددة. وكان العلامة بن خلدون قد بلور هذا المفهوم السوسيولوجي منذ قرون مضت.وحسب هذا الاتجاه، فإن انخراط الفرد في نشاط خيري أو نبيل، من وحي ذاته أو بتوجيه من الآخرين، من شأنه أن يغرس في نفسه قيم الخير والنبل، بما في ذلك تقدير الآخر واحترام خصوصياته وتمايزه.وبالطبع، فإن هذا المفهوم لا يقتصر على النشاط الاجتماعي الخيري أو التطوعي، بل يمتد إلى أصل فكرة النشاط، وبدل الجهد، بدافع الحفاظ على رؤية معينة، أو تعزيزها وتفعيل حضورها.ولا ترتبط هذه المقاربة بفئة عمرية معينة، لكنها تعنى على نحو مبدئي بالفتوة والشباب.
الاتجاه الرابع، هو الاتجاه التنموي، وهو يحيل ظاهرة الإرهاب إلى جذور اجتماعية - اقتصادية، ويرى أن العلاقة بين التنمية والإرهاب تسير وفق معادلة صفرية، بمعنى أن صعود مؤشر التنمية يعني بالضرورة انخفاضاً مقابلاً في مؤشر ظاهرة الإرهاب.وهذا الاتجاه هو السائد على نحو مجمل في الدراسات الغربية.
وبطبيعة الحال، لا يستهدف هذا المقال الدخول في مفاضلة بين الاتجاهات الأربعة سالفة الذكر، ولا يدعو إلى خيار بعينه، لكنه يؤكد في الأحوال كافة على جدارة المنظور السوسيولوجي في مقاربة ظاهرة الإرهاب وسبل معالجتها.وفي إطار المنظور ذاته، سوف يدخل هذا المقال في مقاربة أولية موجزة لمفهوم البيئة الجيوسوسيولوجية للإرهاب.وسوف نعترف في البدء، وعلى نحو مباشر، بأننا أمام مصطلح إشكالي، فهذا المصطلح طوّع للاستخدام في الدراسات الطبيعية والاجتماعية على حد سواء، ونحن هنا سوف نجتهد في استخدامه في سياق ثالث، تحليلي سوسيو - سياسي.
يشير التوصيف المبدئي للمصطلح إلى الجغرافيا الاجتماعية، التي ينظر إليها منهجياً على أنها جزء من الجغرافيا البشرية.بيد أن البيئة الجيوسوسيولوجية لظاهرة الإرهاب لا تشير في جوهرها إلى الجغرافيا الاجتماعية لهذه الظاهرة، وإن تقاطعت معها.إنها بالنسبة لنا تعبر عن مفهوم تحليلي افتراضي، يشير إلى محصلة التفاعل بين الفكر والسلوك والمكان.ومن هنا فإن أية دراسة سوسيولوجية شاملة لظاهرة الإرهاب لا بد أن تتوقف عند تحليل بيئته الجيوسوسيولوجية، كي تأتي معالجاتها منسجمة مع خصوصية المكان الذي تتحرك فيه أو تستهدفه.بيد أن تحليل المكان يجب أن لا يكون إعادة إنتاج لتحليل البيئة الاجتماعية السائدة، بل عليه أن يتضمن أبعاداً جغرافية وايكولوجية.وإن التحليل الكلي والنهائي للبيئة الجيوسوسيولوجية للإرهاب يعد مهمة متعددة التخصصات، لا ينهض بها سوى فريق متكامل، يتمتع بوضوح في المنهج والرؤية.
وبالتقدم خطوة أخرى على طريق المعالجة السوسيولوجية لظاهرة الإرهاب، ثمة عنصر آخر في الاتجاه ذاته يفرض نفسه منهجياً على هذه المقاربة، إنه جغرافية الظاهرة، إنما في إطارها السياسي. إنها البيئة الجيوسياسية للظاهرة.
والبيئة الجيوسياسية هي الأخرى مصطلح إشكالي، لكنه يثير من التحديات المنهجية قدر أقل مما يثيره مصطلح البيئة الجيوسوسيولوجية سابق الذكر.إن مفهوم البيئة الجيوسياسية قد وُلِد في الأصل من رحم دراسات الأمن والدفاع، وهو قد استخدم لتوضيح العناصر الكلية المحيطة بظروف الحروب والنزاعات المسلحة. كذلك، استخدم هذا المصطلح على نحو مغاير في أدبيات السياسة الخارجية، بهدف توصيف المناخ الإقليمي والدولي، الذي تتشكل فيه تفاعلات دولة ما بدولة أخرى، أو بمجموعة دول.بيد إننا سوف نقوم على نحو حذر بتطويع المصطلح واستخدامه في سياق تحليل البعد الكوني لظاهرة الإرهاب.
والسؤال الذي قد يفرض نفسه تلقائياً هو: ما هي العلاقة بين البيئة الجيوسياسية للإرهاب وبين منظوره السوسيولوجي؟ وللإجابة على ذلك، يمكن أن نشير على نحو مبدئي إلى أمرين أساسيين:أولاً، إن مصطلح البيئة الجيوسياسية، من وجهة نظرنا، يتسع ضمناً، أو بالضرورة، لمضامين سوسيولوجية، وذلك على الرغم من محورية سياقه الأمني والسياسي، بل والجيوستراتيجي.ثانياً، إن التحليل السوسيولوجي لظاهرة كونية ما يقتضي تتبع خارطة انتشارها إلى ما هو أبعد من الدولة أو المنطقة المعنية بها، وهذا يعني بالضرورة إننا نقترب من نسق جيوسياسي للتحليل.
ولنعود الآن لطرح السؤال التالي: ما هي المكونات الراهنة للبيئة الجيوسياسية الكونية لظاهرة الإرهاب؟.
يبدو العنف العابر للدول صفة مهيمنة على المضمون الأمني لهذه البيئة.وهذه ليست سمة جديدة في حد ذاتها، لكن الجديد هو درجة اتساعها، وكثافة التداخل بين مجموعات العنف، والسهولة النسبية في عولمة نشاطاتها، استنفاداً للثورة التقنية الراهنة.
ويبدو التموضع الأيديولوجي سمة أخرى لهذه البيئة.وبطبيعة الحال، فإن الايدولوجيا ليست رديفاً لغوياً أو اصطلاحياً للدين، وهي تشير في الأصل إلى منظومة قناعات معينة.إن البعد الاجتماعي في الأدلجة الراهنة للإرهاب قد تضاءل على نحو ملحوظ لمصلحة الالتصاق بدعاوى غير مادية- كي لا نقول ميتافيزيقية.وقد فرض هذا التطور تحديا من نوع جديد على صعيد المعالجات السوسيولوجية للظاهرة، كما قاد من جهة أخرى إلى تموضع مقابل في البيئات الثقافية المغايرة، ليَلُوح بعد ذلك شبح الصدام بين الأمم.
وتتجلى السمة الثالثة للبيئة الجيوسياسية الراهنة لظاهرة الإرهاب في تزاوج هذه الظاهرة مع الميول الطائفية، أو لنقل التطرف الطائفي.وفي حالة كهذه، بدا الإرهاب كتعبير رديف لجرائم التطهير العرقي، وحيث يمثل العراق اليوم نموذجه الأكثر تجلياً.إن خطورة التزاوج بين العنف السياسي والتطرف الطائفي تتمثل في قدرته الفائقة على دفع الدول والشعوب إلى جحيم الحروب الأهلية، على النحو الذي شهدته ايرلندا حتى وقت قريب، وذلك الذي عاشته أوروبا ما قبل معاهدة وستفاليا.ومن المنظور السيكولوجي الاجتماعي، فإن التزاوج بين العنف والتطرف الطائفي هو تزاوج بين ميولين جانحين، أولدا نهجاً إقصائيا لا يقتصر على عدم الاعتراف بالآخر بل يدعو إلى تصفيته.والحقيقة، إن المجتمع العربي لم يشهد نهجاً فوضوياً كهذا حتى في عصر الحروب القبلية السابقة على ظهور الإسلام الحنيف.هذا على الأقل ما يمكن استنتاجه من الكتب المرجعية للتاريخ العربي، المتاحة أمامنا اليوم.إن هذا العنصر من مكونات البيئة الجيوسياسية الراهنة للإرهاب يعد عنصراً متنامياً في خطورته على حاضر الأمة ومستقبلها، الأمر الذي يستدعي تكثيف الجهود الآيلة إلى تطويقه والتخلص من مسبباته.وربما يبدو العراق اليوم الساحة الأولى للتحرك بهذا الاتجاه.
وفي المنتهى، فإن البيئة الجيوسياسية الراهنة للإرهاب تبدو بيئة دافعة لحراكه، وهنا تكمن الخطورة.وعلى ضوء هذه النتيجة، فإن المعالجة السوسيولوجية للإرهاب لن تكون كافية لوحدها، ما لم تُعضّد بجهد سياسي ودبلوماسي عربي وإقليمي.إنما يجب التأكيد في الوقت نفسه على أهمية التعامل مع ظاهرة الإرهاب بما هي ظاهرة سوسيولوجية بالدرجة الأولى، ومن ثم تأصيل مقاربة المنظور السوسيولوجي في التعامل معها. وهنا لا بد من التشديد على أهمية تطويع الأدوات المنهجية والتحليلية المتاحة، على نحو يمكنها من استيعاب القدر المتزايد من الخصوصيات المكانية والزمانية للظاهرة، كما أن الباحثين العرب معنيون بابتكار أدوات تحليل ذات جدارة.
ونحن هنا في الخليج العربي معنيون بالتصدي المنهجي، المتزن والحكيم، للأطروحات الخارجة عن العقل وعن السياق التاريخي والثقافي لهذه المنطقة.ومتى فعلنا ذلك، فإننا نكون قد صُنا مكتسبات الحاضر، وحفظنا بأمانة مستقبل أجيالنا القادمة.وهذه مهمة سامية