الجغرافيا الحضارية ... مدخل لفهم مكونات التراث الإسلامي
يكشف كتاب "الجغرافيا الحضارية" عن أسس بناء الحضارات ومقومات نشأتها وتطورها، ومن ثم يعد هذا الكتاب مدخلاً لفهم موضوعي متوازن للحضارة الإسلامية ومقومات نشأتها وتطورها، من خلال إدراك دور اللغة والدين والمكان في تأليف القلوب، والاتفاق على منهجية فكرية تحدد الإطار العام للسلوك، ومنظومة القيم، واستخلاص أن اللغة العربية والدين الإسلامي ـ القرآن والسنة ـ استطاعا بناء حضارة إسلامية ألفت بين قلوب فظة، ووحدت نمط العقول ليتماشى مع منهج الله عز وجل، فقامت حضارة إسلامية يشهد بقيمها ونبلها وعظمتها العقلاء والمنصفون، لما أرسته من منهج حياة يتضمن قيماً عالية تحض على حسن السلوك والأخلاق.
هذا الكتاب "الجغرافيا الحضارية" مؤلفه أ.د محمد خميس الزوكه أستاذ الجغرافيا الاقتصادية بكلية الآداب – جامعة الأسكندرية وهو من الكتب القيمة التي تُرسي أساسا متينا لفهم العلاقات المتشابكة في الحضارة، فهو في البداية يفرق بين مصطلحي الثقافة والحضارة إذ يشكل المصطلح الأول – الثقافة – منظومة القيم والعادات والأعراف والأفعال وردود الأفعال في مجتمع ما، في حين يقصد بالمصطلح الثاني ـ الحضارة ـ مجموع الإنجازات المادية والفكرية لمجتمع ما، ومعنى ذلك أن الثقافة تعني تأثير الأفعال والقيم والعادات على الأنسان وتأثير الأخير على غيره وتأثره به في حين تعنى الحضارة تأثير العقل البشري على كل من الأفكار والقيم وأيضا على البيئة الطبيعية وبالتالي فالأدوات الحضارية تسعى الى الثقافة وإنتاج الأشياء في إطارها الكامل أو المتكامل.
فالثقافة تتعلق بالأفكار والعادات والتقاليد التي تشكلها خلفيات الشعوب بصرف النظر عن مستوى حضاراتها، وتعد الحضارة ـ من الناحية الثقافية ـ أسلوبا للحياة وبناءاً متكاملا ومترابطا من حيث العادات والتقاليد وطبيعة الاشياء التي تميز المجتمع البشري، وخاصة أن الأخير ـ المجتمع ـ عبارة عن مجموعة من البشر تعيش في إطار مجتمع يتصف بخصائص محددة منها الثقافية كالحضارة الإسلامية التي وحدت بين الأفراد بمختلف جنسياتهم فكانت وما زالت حضارة لها انجازاتها العديدة.
ويقصد بمصطلح الحضارة في اللغة العربية مرحلة من مراحل التطور البشري ومظهراً من مظاهر مستوى الرقي العلمي والفني والأدبي والاجتماعي، ومصطلح الحضارة في اللغة الإنجليزية Civilization يعني منظومة اجتماعية تتضمن أسلوباً للمعيشة بنسق معين ومرحلة متقدمة في مجالات العلوم والفنون والدين والمنظمات الاجتماعية والسياسية.
تعريف الجغرافيا الحضارية
عرف المؤلف الجغرافيا الحضارية استنادا إلى مفهوم مصطلح الحضارة بأنها دراسة جغرافية (تطبيقية) تسعى إلى تسليط الأضواء على التباين المكاني لمكونات الحضارات البشرية التي تتألف من مجموع الانجازات التي حققها الانسان مع تتبع أسباب هذا التباين المكاني ورصد نتائجه، وهو ما يعني عدم وجود إطار أو قالب واحد لمثل هذه الدراسات حيث تتعدد مكونات الحضارات البشرية وتتنوع محاور إنجازاتها والتي تشكل في مجموعها نتاج تفاعل الإنسان مع البيئة التي يعيش فيها، وهنا يكمن مبرر اختلاف وجهات نظر الجغرافيين في تحديد أطر وعناصر أية دراسة جغرافية تشكل الحضارة محورها للاختلاف في تشخيص أى الإنجازات البشرية أجدر بالدراسة.
يتكون الكتاب من خمسة أبواب: الباب الأول بعنوان "من مكونات الحضارة" ويتكون من ثلاثة فصول،أولهم اللغة ويستعرض المؤلف في هذا الفصل ماهية اللغة وأهميتها فيؤكد أن اللغة وسيلة للتعبير وأداة للتفاهم والتقارب والتعاطف وأسلوب لنقل التراث والأفكار وهى تعد من أهم العناصر البشرية التي تسهم في توحيد الجماعات البشرية التي تنتمي إلى الأمة الواحدة وتؤدي إلى تكوين المجتمعات البشرية وتنمية الحضارات وتطويرها.
(اللغة والحضارة ... رديفان)
مثلت اللغة العربية دورا كبيرا في نشاة الحضارة الإسلامية، خاصة أن القرآن الكريم نزل باللغة العربية مما أدى الى استمرار اللغة العربية إلى قيام الساعة، فكانت اللغة العربية عاملاً أساسياً في وحدة المسلمين و تعدد إنجازاتهم المادية والفكرية.
ويوضح المؤلف العلاقة بين اللغة والحضارة فيرى أن الحضارة هى مجموع الإنجازات الفكرية والمادية لمجتمع ما، فيما تعد اللغة رافدها الأساسي فهى التي تمد الفكر البشري بالقيم والأفكار والخبرات والتجارب والمعارف وبالتالى الإبداع الذي يشكل طريق التقدم والازدهار الحضاري، كما تحدث المؤلف بعد ذلك عن التوزيع الجغرافي للغات، كما تعرض للغات المنعزلة وهى تلك اللغات التي لا علاقة لها بالمجموعات اللغوية السائدة في العالم والتي لا يمكن إدراجها ضمن قائمة أى منها وهى لغات تعرف فقط بمفرداتها المرسومة ( المنقوشة) ولا يعرف عنها سوى القليل من حيث خلفياتها التاريخية وملامحها اللغوية، ومن أمثلة هذه اللغات الاينو المتمركزة في شمالي اليابان والبوروشسكي في باكستان والباسك في شمال شرقي إسبانيا وجنوب غربي فرنسا. وبعد ذلك تحدث المؤلف عن الأقليات اللغوية.
واستعرض المؤلف في الفصل الثاني أهمية الدين في حياة الشعوب وتعريف وتصنيف الأديان والبعد التاريخي للأديان والعقائد البدائية، كما تطرق المؤلف للأديان السماوية حسب ترتيب نزولها وهى اليهودية – المسيحية – الإسلام.
وقام المؤلف في الفصل الثالث بإبراز الدور الحضاري للنقل قديما وحديثا، كما استعرض المؤلف الأهمية الحضارية للنقل وذكر أن النقل يعد سبباً ونتيجة للحضارة البشرية إذ ساهم تاريخيا ـ أى كان سبباً ـ في الاتصال بين الشعوب والاحتكاك وتبادل المعارف والآداب والفنون فيما بينها، ويؤكد المؤلف أنه عن طريق النقل انتقلت بعض الملامح الحضارية المشار إليها في شكل موجات إلى العديد من أقاليم العالم، ويستعرض المؤلف أنماط النقل ما بين النقل البري وطرقه ثم النقل النهري والنقل البحري والطرق البحرية الرئيسية في العالم.
( الإنسان... صانع الحضارة)
أما الباب الثاني فكان بعنوان "الإنسان" ويتكون من الفصل الرابع والخامس وتحدث المؤلف في الفصل الرابع عن جغرافية الإنسان فأوضح أن الإنسان هو الفاعل الرئيس في الجغرافيا الحضارية فهو صانع الحضارة ومبتكر مكوناتها ومحدد أطرها وملامحها ومحاور امتداداتها ومداها، وهو في نفس الوقت المستفيد بإنجازاتها سواء كانت مادية أو معنوية وخاصة أن الحضارة البشرية ذات طبيعة تراكمية فكلما تعددت إنجازاتها تزايدت فرص تحقيق المزيد وثقلت قدراتها على التأثير والانتشار.
وتعرض المؤلف بعد ذلك إلى توزيع السكان وكثافتهم، كما قام بعد ذلك بتقسيم العالم حسب كثافة السكان إلى الأقاليم كثيفة السكان وهى تشمل النطاقات التي تتجاوز كثافة سكانها 125 شخصاً في الميل المربع كشرقي وجنوبي آسيا وغربي ووسط أوروبا وأقاليم متوسطة الكثافة وهى التي تتراوح كثافة سكانها بين 25 إلى أقل من 125 نسمة في الميل المربع وأقاليم منخفضة الكثافة وهى التي تتراوح كثافة سكانها بين 2 إلى أقل من 25 نسمة في الميل المربع.
وأقاليم نادرة السكان وهى التي تقل فيها الكثافة عن شخصين في الكيلومتر المربع.
ثم تطرق المؤلف بعد ذلك إلى توزيع القوى العاملة في القارات المختلفة لتحديد نسبة هذه القوة إلى جملة السكان ولمعرفة نسبة الإعالة في كل قارة ولتحديد العاملين وغير العاملين بين فئات السن الصغيرة وأيضا بين الإناث، ثم استعرض أهمية تحقيق التوازن بين الزيادة السكانية والزيادة الإنتاجية، كما قدم عدة توصيات لزيادة الانتاج وخاصة الزراعي، ثم تطرق المؤلف إلى مستوى معيشة سكان العالم لتأثيره على الانتاج الاقتصادي كما أفرد المؤلف جزءاً خاصاً عن العوامل الحضارية التي تؤثر في الانتاج الاقتصادي كالنظم الاجتماعية والمستوى الحضاري ومدى التقدم التكنولوجي والسياسات الحكومية والارتباطات الدولية ورأس المال والعادات والتقاليد والسوق الذي يتأثر إلى حد كبير بمستوى المعيشة والقدرة الشرائية للسكان.
أما الفصل الخامس فقد تعرض فيه المؤلف إلى تحركات السكان وحركة البشر في العالم مؤكداً أن الهجرة ظاهرة قديمة قدم تواجد الإنسان على سطح الأرض وإن تباينت زمنيا ومكانيا إلى جانب تباين الأهداف وتعدد النتائج .
واستعرض المؤلف تحركات البشر موضحاً أن الجنس البشري كان موطنه الأصلي شرقي إفريقيا وجنوب غربي آسيا وتؤكد تحركات البشر مهما تنوعت أسبابها الرغبة في النزوح من إقليم إلى آخر بتأثير عدم الرضا عن الإقليم الأصلي حيث الموطن إلى إقليم جديد تتوافر فيه مقومات أو خصائص تجعله هو الأفضل والأكثر ملاءمة من أجل العيش. وقدم المؤلف نماذج من التحركات البشرية القديمة كالتحركات الآسيوية صوب شرقي اوروبا كما قدم ايضا نماذج من الهجرات السكانية الدولية كهجرة الزنوج من إفريقيا إلى قارات العالم الجديد.
اليهود واغتصاب فلسطين
في إطار عرض المؤلف لتحركات السكان في العالم، كشف المؤلف عن مخطط اليهود الخبيث لاحتلال فلسطين منذ القدم، فسجل المؤلف في كتابه أن فلسطين المحتلة استقبلت خلال فترة الانتداب البريطاني نحو 550 الف مهجر يهودي من مختلف أنحاء العالم خلال الفترة الممتدة بين عامي 1882 و 1948 وبعد صدور وعد بلفور تم تهجير نحو 83 الف يهودي خلال سنة واحدة عام 1922، ليبلغ إجمالى عددهم 650 ألف يهودي وهو ما يكون 9ر30 % من جملة سكان فلسطين المحتلة البالغ عددهم مليونين و100 ألف و400 نسمة عام 1948، واستمرت أعداد اليهود في التزايد حتى بلغوا نحو مليونين عام 1960، كما تزايدت معدلات هجرة اليهود إلى فلسطين المحتلة بعد انهيار الاتحاد السوفييتى عام 1990، وقد وفد إلى فلسطين أكثر من نصف مليون مهاجر يهودي خلال الفترة الممتدة بين عامي 1989 و1994، وكان ذلك عاملاً رئيساً في اغتصاب فلسطين الحبيبة.